صائغ مرو وابتهال- صراع القيم والسلطة في عالم الذكاء الاصطناعي

المؤلف: د. محمد غالي09.07.2025
صائغ مرو وابتهال- صراع القيم والسلطة في عالم الذكاء الاصطناعي

قصة صائغ مرو وأبي مسلم الخراساني: دروس في الأخلاق والسلطة

تحكي لنا كتب التاريخ الإسلامي قصة بالغة الأهمية، تحمل في طياتها معاني أخلاقية عميقة، وتجسد الصعوبات المتعلقة بتطبيق الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر في الشريعة الإسلامية.

محور هذه القصة شخصيتان بارزتان هما: إبراهيم بن ميمون، المعروف بـ "صائغ مرو" (توفي عام 131هـ/749م)، والذي اعتبره البعض من كبار فقهاء المذهب الحنفي. تصفه المصادر التاريخية بأنه كان رجلاً تقيًا ومحافظًا على أداء العبادات والشعائر الدينية، لدرجة أنه كان يلقي بمطرقته جانبًا ويسارع إلى أداء الصلاة بمجرد سماعه للأذان. أما الشخصية الثانية فهي أبو مسلم الخراساني (توفي عام 137هـ/755م)، صاحب الدعوة العباسية وأحد أبرز مؤسسي الدولة العباسية الناشئة. يُعرف أبو مسلم بقسوته الشديدة وإراقته للدماء، حيث تسبب في هلاك الكثيرين في حروبه ومعاركه.

في بداية الدعوة العباسية، كان صائغ مرو من المقربين لأبي مسلم، وقد وعده الأخير بتحقيق العدل وإقامة الحق متى ما استتب له الأمر. ولكن، بعد أن ترسخ سلطان أبي مسلم وتوطدت أقدامه في خراسان، نكث بوعوده التي قطعها، وسلك طريق الظلم والعنف وسفك الدماء.

بمرور الأيام، تفاقمت حدة التوتر في العلاقة بين الرجلين. ظل الصائغ يذكّر أبا مسلم بعهده الذي قطعه، ويطالبه بالوفاء به، إلا أن أبا مسلم كان يتجاهله باستمرار ويقول له: "اذهب إلى شأنك، فقد عرفت رأيك وموقفك". عندما يئس الصائغ من استجابة أبي مسلم لنصائحه، قرر المواجهة بشجاعة، واستعد للموت. تحنط وتكفن، ثم ذهب إلى أبي مسلم وهو في اجتماع حاشد، فقام بوعظه وتوبيخه بكلام شديد اللهجة. فأمر به أبو مسلم فقتلوه على الفور.

اقتداءً بمقولة الإمام الشافعي المشهورة "من قرأ التاريخ زاد عقله"، سنعود إلى هذه القصة في سياق هذا المقال لتسليط الضوء على بعض التفاصيل الهامة واستخلاص الدروس والعبر من هذا الصراع الأخلاقي بين الداعين إلى الحق وأصحاب السلطة والنفوذ.

واقعة ابتهال أبو السعد في حفل مايكروسوفت: صرخة في وجه الظلم

ابتهال أبو السعد، مهندسة ومبرمجة مغربية لامعة، ولدت في عام 1999. تخرجت من جامعة هارفارد المرموقة في الولايات المتحدة الأمريكية بعد حصولها على منحة دراسية متميزة. انضمت إلى شركة مايكروسوفت العالمية في عام 2022، حيث عملت في قسم الذكاء الاصطناعي. شاركت ضمن الفريق الذي كلفته مايكروسوفت بتطوير تقنيات متطورة تستخدم في مجالات متعددة مثل المراقبة والتحليل البياني.

يتضح من المعلومات المتوفرة أن الجانب الأخلاقي والإنساني كان حاضرًا بقوة في حياة ابتهال، وتجلى ذلك بوضوح في مشاركتها الفعالة في العديد من المشاريع والمبادرات الاجتماعية التي تهدف إلى خدمة الفئات الضعيفة والمهمشة في المجتمع عندما كانت طالبة في المرحلة الثانوية.

استمر اهتمامها بالشأن العام بعد انتقالها إلى الولايات المتحدة، حيث انضمت إلى برنامج يهدف إلى محو الأمية الرقمية، وساهمت في تأسيس منصة رقمية مبتكرة تُعنى بحفظ وتوثيق السجلات الطبية الرقمية للاجئين في جميع أنحاء العالم.

إذًا، نحن أمام شخصية تتمتع بحس أخلاقي رفيع واهتمامات إنسانية نبيلة، لم تتخلَ عنها أبدًا في سعيها الدؤوب نحو التفوق الدراسي والنجاح المهني. وهذا يذكرنا بصائغ مرو الذي لم يشغله عمله وحرفته عن التمسك بقيمه ومبادئه والتزامه بتعاليم دينه.

تشير المعلومات المتاحة إلى أن بداية علاقة ابتهال بشركة مايكروسوفت كانت واعدة ومبشرة، تمامًا كما كانت العلاقة بين صائغ مرو وأبي مسلم الخراساني في بدايتها.

كانت ابتهال متفائلة بأن عملها في شركة عملاقة مثل مايكروسوفت سيقربها من تحقيق هدفها السامي بتسخير التكنولوجيا لخدمة الإنسانية وتحقيق الخير للناس، وهو مبدأ "التكنولوجيا من أجل الصالح الاجتماعي" الذي يتردد صداه في خطابات كبار مديري شركات التكنولوجيا العملاقة. هذا المبدأ هو ما أشارت إليه ابتهال لاحقًا عندما اعترضت على ممارسات الشركة بعد أن ساءت العلاقة بين الطرفين.

بعد مرور أكثر من ثلاث سنوات على عملها في شركة مايكروسوفت، بدأت اعتراضات ابتهال تتصاعد تدريجيًا. في البداية، حرصت على إيصال رسائلها عبر القنوات الداخلية للشركة، وظلت هذه الرسائل حبيسة أروقة الشركة ولم تخرج إلى العلن.

ولكن في احتفال مايكروسوفت بالذكرى الخمسين لتأسيسها، "فاض الكيل"، فقامت ابتهال بمقاطعة كلمة مصطفى سليمان، المدير التنفيذي لقطاع الذكاء الاصطناعي في الشركة (وهو بريطاني من أصول سورية)، وذلك أمام جمهور كبير ضم مؤسس مايكروسوفت، بيل غيتس، وجمعًا غفيرًا من كبار الموظفين. هذه الواقعة تعيد إلى الأذهان محاولات صائغ مرو المستمرة لإصلاح سلوك أبي مسلم الخراساني دون جدوى، حتى اضطر في النهاية إلى مواجهته علنًا أمام الناس.

تقدمت مهندسة مايكروسوفت نحو المنصة وهي تصرخ: "مصطفى، عار عليك! تدّعي أنك تهتم باستخدام الذكاء الاصطناعي للخير، ولكن مايكروسوفت تبيع أسلحة ذكاء اصطناعي للجيش الإسرائيلي."

ثم أضافت بغضب: "خمسون ألف إنسان قُتلوا، ومايكروسوفت تغذّي هذه الإبادة الجماعية في منطقتنا!" ردّ سليمان قائلاً: "شكرًا على احتجاجك، لقد سمعتك." إلا أن ابتهال واصلت اعتراضها واتهمت سليمان و"كل شركة مايكروسوفت" بأنهم مسؤولون عن هذه الجرائم، وقالت إن أيديهم ملطخة بالدماء. كما ألقت بكوفية فلسطينية على المنصة، في لفتة رمزية لدعم الشعب الفلسطيني، قبل أن يتم اقتيادها إلى خارج القاعة.

قام بعض الحاضرين في الاحتفال بتسجيل هذه المواجهة بهواتفهم المحمولة، وسرعان ما انتشرت كالنار في الهشيم على الإنترنت، وتداولها رواد وسائل التواصل الاجتماعي، وتناقلتها المواقع الإخبارية المختلفة.

أثارت هذه الواقعة ردود فعل واسعة النطاق، وأشاد معظم المعلقين بموقف ابتهال الشجاع والنبيل. تجدر الإشارة إلى أن تورط مايكروسوفت في تسخير تقنيات الذكاء الاصطناعي يعود إلى سنوات سبقت التحاق ابتهال بالشركة. ففي عام 2018، أعلنت مايكروسوفت عن انخراطها في مشروع عسكري مع وزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون)، دون أن يثير ذلك أي اعتراض يُذكر من العاملين في الشركة في ذلك الوقت، على الرغم من احتجاج العديد من العاملين في هذا المجال في شركات أخرى، كما سنوضح لاحقًا في هذا المقال.

ما وراء الظاهر: تحديات أخلاقية جسيمة في عالم يحكمه الذكاء الاصطناعي

لا يمكن النظر إلى واقعة المهندسة ابتهال أبو السعد في شركة مايكروسوفت على أنها مجرد حادث عابر أو رد فعل لحظي، ولا يجوز حصرها في سياق المجازر المروعة التي تُنقل على الهواء مباشرة من غزة، على الرغم من أن هذه المشاهد باتت تفوق قدرة الكثيرين على التحمل، فضلًا عن المآسي التي يعيشها الضحايا الأبرياء وعائلاتهم.

هذه الواقعة تعكس قلقًا أخلاقيًا عميقًا تشترك فيه ابتهال مع شخصيات مرموقة في هذا المجال، ويتعلق بسلطة جديدة بدأت تهيمن على عالمنا المعاصر: سلطة شركات التكنولوجيا العملاقة ونفوذها المتزايد من خلال تقنيات الذكاء الاصطناعي، حتى أصبحت تتحكم في حياة البشر ومصائرهم، بل وفي الدول والحكومات التي تعتمد بشكل متزايد على هذه الشركات لتنفيذ خططها ومصالحها، سواء كانت نبيلة أم خبيثة.

هناك قائمة طويلة من العلماء والمفكرين الذين يحذرون من مخاطر الذكاء الاصطناعي، ويعربون عن انزعاجهم من المنافسة الشرسة بين عمالقة التكنولوجيا، والذين فقدوا وظائفهم المرموقة، إما طواعية أو قسرًا، بسبب تمسكهم بمواقفهم الأخلاقية.

على رأس هذه القائمة يأتي جيفري هينتون (Geoffrey Hinton)، الحائز على جائزة تورينج المرموقة (والتي تعادل جائزة نوبل في مجال الحاسوب) عام 2018، والذي يُلقب بـ "الأب الروحي للذكاء الاصطناعي". استقال هينتون من منصبه الرفيع في شركة جوجل عام 2023 ليتمكن من "التحدث بحرية عن مخاطر الذكاء الاصطناعي"، مشيرًا ضمنيًا إلى أنه لم يكن قادرًا، على الرغم من منصبه المرموق، على مناقشة هذه القضايا وهو داخل أسوار الشركة.

بعد استقالته، اشتهر هينتون بانتقاداته العلنية للعديد من الشخصيات القيادية في مجال الذكاء الاصطناعي، مثل سام ألتمان، الرئيس التنفيذي لشركة OpenAI، وإيلون ماسك (Elon Musk)، أحد أبرز المستثمرين في هذا المجال.

من بين الأسماء البارزة أيضًا تيمنيت جيبرو (Timnit Gebru)، والتي أثارت قضية رحيلها عن شركة جوجل في عام 2020 جدلاً واسعًا. كانت جيبرو تشغل منصب الرئيس التقني المشارك للفريق المسؤول عن أخلاقيات الذكاء الاصطناعي في الشركة.

بدأت الأزمة عندما كتبت جيبرو ورقة بحثية تحذر فيها من مخاطر النماذج اللغوية الضخمة (LLMs). وبعد خلافات مع إدارة الشركة التي سعت إلى منع نشر البحث، أنهت جوجل عقدها مع جيبرو، وأعلنت أنها قبلت استقالتها. في المقابل، أكدت جيبرو أنها لم تقدم استقالة رسمية، وإنما لوّحت بها فقط.

فيما يتعلق باستخدام تقنيات الذكاء الاصطناعي في المجال العسكري على وجه الخصوص، ارتفعت أصوات عديدة من داخل كبرى شركات التكنولوجيا تشدد على عدم أخلاقية ذلك على الإطلاق، ليس فقط من زاوية سوء الاستخدام المتمثل في قتل الأبرياء، بل من منطلق مبدئي يرى أن الذكاء الاصطناعي لا ينبغي أن يُستخدم في ساحات الحروب بأي شكل من الأشكال.

من الأحداث الشهيرة في هذا السياق، استقالة البعض من شركة جوجل، واحتجاج ما يزيد عن 3100 موظف فيها عام 2018 – من بينهم عدد من كبار المهندسين – الذين وقعوا على رسالة داخلية يعربون فيها عن رفضهم لانخراط الشركة في "مشروع مافن" التابع لوزارة الدفاع الأمريكية (البنتاغون). هذا المشروع عبارة عن برنامج تجريبي يستخدم الذكاء الاصطناعي لتحليل الصور وتحسين دقة الضربات الجوية للطائرات المسيّرة.

جاء في الرسالة الموجهة إلى المدير التنفيذي للشركة: "نؤمن بأن جوجل لا ينبغي أن تكون جزءًا من صناعة الحروب." وطالب الموقعون على الرسالة بانسحاب الشركة من المشروع، وتبني سياسة معلنة تمنع تطوير أي تكنولوجيا ذات طابع عسكري في المستقبل، مستشهدين بالشعار الذي تتبناه الشركة "لا تكن شريرًا" (Don’t be evil).

رفض عدد من المحتجين الكشف عن هوياتهم للصحافة خوفًا من التعرض لإجراءات انتقامية. وتحت الضغوط المتزايدة لهذا الحراك الداخلي، أعلنت جوجل لاحقًا عدم تجديد عقدها في هذا المشروع.

دروس وعبر من التاريخ

لا يمكننا فهم قوة وسطوة أبي مسلم الخراساني بمعزل عن السياق التاريخي والتحول الكبير الذي شهده العالم الإسلامي في تلك الفترة، من أفول نجم الدولة الأموية إلى بزوغ فجر الدولة العباسية. فقد كان أبو مسلم، بفضل قدرته على البطش وفرض النفوذ، عنصرًا حاسمًا في تمكين الدولة العباسية الناشئة. بل تذكر كتب التاريخ أن نفوذه كان يقارب، وربما يتجاوز، نفوذ الخليفة العباسي نفسه في تلك الفترة. حتى إن أخاه، أبا جعفر المنصور، كتب إليه بعد زيارة قام بها إلى خراسان ومعاينته لنفوذ أبي مسلم المتعاظم قائلاً: "لست خليفة ولا آمرك بشيء إن تركت أبا مسلم ولم تقتله". إلا أن الخليفة رفض أن يتعرض لأبي مسلم بأي أذى خوفًا من المشاكل التي قد تنجم عن قتله، خاصة وأن الدولة الناشئة كانت لا تزال بحاجة إلى جهوده وجيوشه التي كانت تشكل دعامة أساسية للدولة العباسية في ذلك الوقت.

وفي المقابل، نحن نعيش اليوم تحولات جذرية قد لا تترك شيئًا على حاله، ولا تستطيع الدول والحكومات في عالمنا المعاصر الاستغناء عن شركات مثل مايكروسوفت وأخواتها من عمالقة التكنولوجيا، سواء في أوقات السلم أو الحرب.

هناك مخاوف حقيقية أعرب عنها مفكرون وسياسيون كبار، تلميحًا وأحيانًا تصريحًا، من أننا نتجه تدريجيًا من عصر الدول والحكومات إلى عصر إمبراطوريات شركات التكنولوجيا العملاقة. حتى أن المرشحة الرئاسية الأمريكية إليزابيث وارن (Elizabeth Warren) عبرت في عام 2019 وكأنها تقول بلسان الحال إننا لسنا دولًا ولا حكومات حقيقية ولا نملك من أمرنا شيئًا إن تركنا هذه الشركات العملاقة على حالها.

دعت وارن إلى "تغيير هيكلي كبير" في طريقة التعامل مع هذه الشركات، وقامت حملتها الانتخابية بنشر إعلانات مدفوعة الأجر كُتب عليها بخط كبير: "تفكيك الشركات التكنولوجية الكبرى".

صحيح أن قصة صائغ مرو صاحب المبادئ لم تنتهِ بنهاية سعيدة بانتصاره على خصمه صاحب النفوذ، حيث قُتل على يد أبي مسلم الخراساني، إلا أن إعجاب الناس بشجاعته وثباته على الحق وصدعه بالنهي عن المنكر لم يمت في ذاكرتهم، بل أصبحت قصته مضرب الأمثال عند الكثيرين.

تذكر كتب التاريخ أن قبره في مرو ظل معروفًا ومزارًا بعد مرور فترة طويلة على الحادثة. وفي المقابل، قام أبو جعفر المنصور، بعد توليه الخلافة، بقتل أبي مسلم الخراساني، في رمزية لانتقام الدولة ممن يحاول منافسة سلطتها ونفوذها.

لحسن الحظ، لم تلق مهندسة مايكروسوفت مصير صائغ مرو. فابتهال لا تزال حية ترزق، تعيش بيننا وتمارس دورها في نشر الوعي والتعبير عن آرائها وتعليقها على هذه الأحداث من خلال مقاطع الفيديو التي تنشرها.

إلا أنها فقدت وظيفتها، حيث قامت الشركة بفصلها بعد أيام قليلة من الواقعة بتهمة "سوء السلوك المتعمد، والعصيان، والإهمال في أداء الواجب!".

الدرس الأهم هنا هو ضرورة العمل الجماعي وتحمل كل فرد منا مسؤوليته في هذا الظرف الدقيق، وعدم الاكتفاء بالتصفيق من بعيد للأعمال البطولية الفردية التي يواجه فيها أصحاب المبادئ أهل السلطة والنفوذ، ثم يطويها النسيان بعد فترة قد تطول أو تقصر. تذكر الروايات أن صائغ مرو كان له نقاش مباشر مع الإمام أبي حنيفة حول فريضة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر والطريقة الأمثل لإنكار أفعال أبي مسلم.

يروى أن أبا حنيفة قد نصحه قائلاً: "هذا أمر لا يصلح بواحد، ما أطاقته الأنبياء حتى عقدت عليه من السماء، وهذه فريضة ليست كسائر الفرائض؛ لأن سائر الفرائض يقوم بها الرجل وحده، وهذا متى أمر به الرجل وحده أشاط بدمه، وعرض نفسه للقتل، فأخاف عليه أن يعين على قتل نفسه، وإذا قتل الرجل لم يجترئ غيره أن يعرض نفسه".

لا يجوز أن نترك ابتهال وزملاءها المخلصين فريسة لأنياب شركات التكنولوجيا العملاقة، دون أن يكتب علماء الأخلاق والدين تحليلات معمقة لهذه الظواهر ويكشفوا عن مساوئ هذه الشركات، وأن يتضامن معها المهندسون النبيهون في هذا المجال. يجب أن تدرك هذه الشركات أنها ستخسر كفاءات مهمة إذا تخلت عن أبسط مبادئ احترام حياة الأبرياء.

لا يمكن القبول بخسارة ابتهال وزملائها لوظائفهم المرموقة بسبب قيامهم بواجب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر نيابة عنا جميعًا، بينما تخصص الدول العربية والإسلامية المليارات لشراء الأجهزة والاستثمار مع هذه الشركات. بل يجب أن يجد أمثال ابتهال التقدير اللازم والمستحق.

لا نقول أن الذكاء الاصطناعي والشركات الرائدة فيه شر مطلق، ولكن الأمر يحتاج إلى حسن إدارة وتدبير حتى تدرك هذه الشركات أن إهمال القيم له ثمن باهظ، ولن يتحقق ذلك إلا بالعمل الجماعي والإصرار على إيصال هذه الرسالة مرارًا وتكرارًا وبطرق مختلفة.

يبقى السؤال معلقًا حول السيناريوهات المستقبلية الأكثر احتمالاً: هل سينجح صائغ مرو في عصرنا، ممثلاً في ابتهال وزملاءها، في ترويض أبي مسلم الخراساني، المتمثل في شركات التكنولوجيا، ومنعه من الظلم والاستهانة بحياة الأبرياء وتطوير نسخة أفضل وأكثر فائدة للناس؟ وهل ستسمح الدول والحكومات لشركات التكنولوجيا العملاقة بأن ترث سلطتها ونفوذها، على الرغم من كل المشاكل التي تسببها؟ أم أن تجربة أبي جعفر المنصور ستتكرر، عندما تخلص من أبي مسلم، من خلال جهود مماثلة لجهود إليزابيث وارن، والتي قد تؤتي ثمارها في النهاية؟ صدق الله تعالى إذ يقول في كتابه العزيز: "قُلِ ٱللَّهُمَّ مَـٰلِكَ ٱلْمُلْكِ تُؤْتِى ٱلْمُلْكَ مَن تَشَآءُ وَتَنزِعُ ٱلْمُلْكَ مِمَّن تَشَآءُ وَتُعِزُّ مَن تَشَآءُ وَتُذِلُّ مَن تَشَآءُ ۖ بِيَدِكَ ٱلْخَيْرُ ۖ إِنَّكَ عَلَىٰ كُلِّ شَىْءٍۢ قَدِيرٌۭ."

سياسة الخصوصية

© 2025 جميع الحقوق محفوظة